*اختيارات*
*الإيقاع الخليلي*
----
حاول الكاتب المصري كمال أبو ديب هدم العروض الخليلي العربي، وإيجاد بديل له، بنية إيقاعية هشة... لا تقوم على جرس إيقاعي منتظم... وقد وجد آذان مصغية له... وحاول وحاول وأرغد وأزبد...لكنه توصل إلى حقيقة ناصعة البيان تقول :إن الخليل بن أحمد الفرهودي كان محقا في اكتشافاته ابتداء بجرس العين الذي جعل منه عنوانا لمعجمه... ومرورا بالقوافي والعروض،،، الذي جعل منه علما خاصا، خالصا لجهوده، ومسجلا باسمه حتى يرث الله الأرض ومن عليها...وقد جهزت نفسي للرد على كمال أبي ديب ومن لف لفه
في أطروحتي التي أعكف عليها
وفيها أوضحت الفرق بين الإيقاع والموسيقى الشعرية... ورددت على كل مشكك بعروضنا الفرهودي.....
حيث يخلط الكثيرون بين الإيقاع والموسيقى؛ لاسيما في الشِّعر، على اعتبار أنَّه لا فارق بينهما إطلاقًا، فلا يجدون بذلك حرجًا من استخدام أيٍّ من هذين المصطلحين للتعبير عمَّا يجدونه في الشِّعر من تناغمٍ وانسجامٍ، وفي هذا المقال سأُحاول التُّفريق بينهما، لأنَّهما ليسا أمرًا واحدًا، ولا ينبغي لهما. كما سأُحاول توضيح نقاط وأوجه الالتقاء والاختلاف بينهما، ولكن قبل أن أبدأ؛ أُحب أن أُشير إلى أنَّ هذا التَّفريق بين الإيقاع والموسيقى يسمح لنا بمعرفة الفرق بين ضروبٍ مُختلفةٍ من الشِّعر؛ لاسيما بين الشِّعر الأدبي والشِّعر الموسيقى، وسوف نرى ذلك في آخر المقال.
الإيقاع:
هو أيُّ صوتٍ يتكرَّر أو يحدث بتتابعٍ زمنيٍ مُحدَّدٍ ومُنتظمٍ؛ مهما تباطأ هذا التَّتابع أو تسارع. وبإمكاننا أن نجد الإيقاع في مظاهر كثيرةٍ جدًا: فوقع الأقدام إيقاع، ودقات القلب إيقاع، وصوت دقَّات السَّاعة إيقاع، وصوت سقوط قطرات الماء على الإناء الفارغ إيقاع، والخطوات العسكريَّة إيقاع، والتَّصفيق المنتظم، ونقر الأصابع المنتظم إيقاعٌ أيضًا؛ فالطَّبيعة مليئةٌ بالأصوات الإيقاعيَّة؛ فقط إذا أحسنَّا الإصغاء، ونُلاحظ هُنا أنَّ كُلَّ هذه الأصوات السَّابقة لا تدل على موسيقى، لا من قريبٍ ولا من بعيد؛ فالإيقاع لا علاقة له بالموسيقى، بمعنى أنَّه لا يُشعرنا بالموسيقى، ولا يتولَّد عنه موسيقى، ولكن ورغم ذلك؛ فهنالك رابطٌ بين الإيقاع والموسيقى، وهو ما سوف يتضحُ في هذا المقال؛ أو هكذا أرجو. فنحن لا نستشعر الموسيقى في صوت دقات القلب، ولا في صوت وقع الأقدام، ولكنها تظل إيقاعًا، مما يدلُّ على وجود فارقٍ بينهما من النَّاحية المبدئيَّة.
ما يهمنا معرفته -فيما يتعلَّق بالإيقاع هنا- هو أنَّه مسارٌ زمنيٌ فقط، ولا يُستشعر منه الموسيقى، فأيُّ صوتٍ يتتابع بصورةٍ مُنتظمةٍ فهو إيقاع، وهذا الانتظام هو ما يدل على الزَّمن، ولهذا فإنَّ الإيقاع يمتاز بالوحدة الزَّمنيَّة، وانعدام هذه الوحدة الزَّمنيَّة يُفسد الإيقاعيَّة، ولكنه قد يتولَّد عنه موسيقى، ولنأخذ هذا الإيقاع على سبيل المثال: (دوم. دوم. دوم. دوم.) مع مُلاحظة أنَّ النُّقطة (.) بين كُل صوتٍ إيقاعيٍ وآخر يدلُّ على وحدةٍ زمنيَّة، ولنفترض أنَّها ثانيةٌ واحدةٌ. هنا لدينا إيقاعٌ مُنتظمٌ في وحدته الزَّمنيَّة، ولكن ماذا سوف يحدث إن تغيَّرت الوحدة الزَّمنيَّة، ولم تكن مُنتظمة؟ (دوم. دوم... دوم.. دوم..... دوم. دوم...) هنا انتفى الانتظام، وهذا خللٌ في الوحدة الزَّمنيَّة، وكذلك الأمر في هذا الإيقاع: (دوم. تك.. دوم. تك.. دوم. تك..) هنا لدينا صوتين إيقاعيين، بمعنى أنَّ هنالك صوتان الفارق الزَّمني بينهما مُوحَّد ومُنتظم.
الآن فلنُلاحظ لهذا الإيقاع: (دوم تك. دمدم تتك.. دوم تك. دمدم تتك.. دوم تك. دمدم تتك..) فهذا نوعٌ آخر من الإيقاع، ولكنَّه إيقاع موسيقي، بمعنى أنَّه تولَّدت عنه موسيقى؛ ولكن لماذا؟ الواقع أنَّه كُلَّما ازدادت الأصوات الإيقاعيَّة أو كُلمَّا حدث خللٌ في انتظام الوحدة الزَّمنيَّة للإيقاع، كان ذلك أقرب جدًا إلى توليد الموسيقى، فلو أنَّنا لو قمنا بتغيير الوحدة الزَّمنيَّة في الإيقاع (دوم. تك.. دوم. تك..) على طول المسار الزَّمني له، فإنَّه سوف يتولَّد عن ذلك إيقاعٌ موسيقي، بمعنى أنَّه سيكون بإمكاننا استشعار الموسيقى فيه، كأن يكون على النَّحو التَّالي: (دوم. تك.. دوم. تك. دوم.. تك... دوم. تك..)، أو أيُّ مُحاولةٍ أُخرى على هذا المنوال، وكذلك الحال مع زيادة الأصوات الإيقاعيَّة داخل المسار الزَّمني للإيقاع، فمثلًا: (دوم. تاك.. دومدم. تتيك.. دام. توك. دومدم. تتوك)، أو أيُّ مُحاولةٍ أُخرى على هذا المنوال. ونلخص من هذا أنَّ زيادة أو تغيُّر الأصوات الإيقاعيَّة داخل المسار الزَّمني قد يُولِّد موسيقى، كما أنَّ اختلال الانتظام في الوحدة الزَّمنيَّة للإيقاعات الصَّوتيَّة المفردة أو الثُّنائيَّة، قد يتولَّد عنه موسيقى؛ فما هي الموسيقى إذن؟
الموسيقى:
يُمكننا اختزال الموسيقى في كلمةٍ واحدة؛ وهي: اللَّحن، الموسيقى هو الصَّوت الملحَّن، ولكن ما هو اللَّحن نفسه؟ في اللُّغة العربيَّة نقول: "لَحَنَ فلانٌ" أي أخطأ في كلامه من النَّاحية الإعرابيَّة، كأن يكون نصب مرفوعًا، أو رفع منصوبًا؛ فاللَّحن إذن مُلازمٌ للتغيير، والتَّغيير في الصَّوت يتولَّد عنه لحن. وهنا تجدر بنا مُلاحظ أنَّ سمة الموسيقى الاختلال مُخالفةٌ لسمة الانتظام في الإيقاع، وهذا الفارق مُهمٌ وضروري للغاية. ما يهمنا معرفته هنا هو أنَّ اللَّحن في الموسيقى قائمٌ على تمييع الصَّوت، أو تغييره حِدَّةً أو انخفاضًا أو تقصيرًا أو تطويلًا دون انتظام. فلو أنَّنا أخذنا –على سبيل المثال- الصَّوت الذي يُعبِّر عنه بالحرف (و) في اللُّغة العربيَّة، فسوف نجد أنَّ صوت الحرف واو، يُنطقُ هكذا: (وا) إذا كان مفتوحًا (وَ) كما في كلمة "وَصَلَ"، أو (وي) إذا كان مكسورًا (وِ) كما في كلمة "وِصَاَلٌ"، أو (وو) إذا كان مرفوعًا (وُ) كما في كلمة "وُجُوُدٌ"، فإنَّ أيَّ تمييعٍ/تغييرٍ في هذا الصَّوت يُحدث لحنًا، فلو أنَّنا قلنا: "وااااااااااا" فهذا انتظام، ولكن إن قلنا: "وااااا وييييي ووووو وااااااا ووووو وييييي"، فهذا الخلل في الانتظام يُحدث لحنًا، وهذا يُعتبر موسيقى؛ فالموسيقى قائمةٌ في أساسها على إحداث خللٍ في مجموعة الأصوات، وهو ما يُعبَّر عنه بالموسقة أو التَّرنيم. هذا الأمر ينطبق على أيِّ صوتٍ، سواءٌ كان صوتًا بشريًا، أو صوتًا آليًا، أو حتَّى الأصوات الموجودة في الطَّبيعة؛ ولهذا فإنَّ صفير الرِّياح، وخرير المياه، وزقزقة العصافير وحتَّى صوت التَّصفيق الإيقاعي قد يُصدر موسيقى إذا لم يكن هنالك انتظامٌ على النَّحو الذي ذكرنا.
وربما من أجل ذلك نجد أنَّ اللُّغات نفسها؛ بل واللَّهجات المحكيَّة أيضًا تمتاز بالموسيقى، لأنَّها قائمةٌ على إحداث خللٍ في الأصوات، سواءٌ بالمد أو القصر، أو التَّفخيم، أو التَّرقيق، ولهذا نجد أنَّ بعض اللُّغات موسيقيَّة أكثر من لُغاتٍ أُخرى؛ فالفرنسية والإسبانيَّة والإيطاليَّة والمكسيكيَّة، يُمكننا استشعار الموسيقى الموجودة فيها عبر "تلحينهم" أو موسقتهم لبعض الأصوات الموجودة في لُغاتهم، فكلمة voilà مثلًا في اللُّغة الفرنسيَّة لا تُنطق أصوات حروفها تمامًا كما هي بانتظامٍ؛ بل تتم استطالتها صعودًا وهبوطًا، حتَّى تُعطي التَّعبيريَّة expression التي تدل عليها، وكذلك عبارة come-on في اللُّغة الإنكليزيَّة، فالمحليون ينطقون أصوات الحروف فيها بطريقةٍ مُميَّزةٍ، حتَّى تُوافق والتَّعبيريَّة التي تدل عليها أيضًا، وكذلك الأمر في كُل اللُّغات واللَّهجات حول العالم، وما يُعطي التَّمايز بينها، بشكلٍ عام. وقارئ القرآن عندما يهتم بقواعد التَّجويد من إدغامِ، وإقلابٍ، ومدٍ، وتفخيمٍ، وترقيقٍ فإنَّه يُرتِّل القرآن، ولا يقرأوه، والتَّرتيل ضربًا من ضروب الموسيقى بمفهومها الواسع.
وعلى نحو وثيق الصِّلة أيضًا، فإنَّ الموسيقى تحتاج إلى إيقاع، ولا تقوم إلا عليه، فحتَّى الإيقاع المختل (عكس المنتظم) يقوم على إيقاعٍ داخلي، وهذا الإيقاع الدَّاخلي يحكم الزَّمن، ولهذا قد يُغني أحدنا دون أن يكون هنالك عزفٌ إيقاعيٌ مُصاحب، ولكنَّه –حتمًا- سيجد نفسه مُلتزمًا –داخليًا- بزمنٍ مُحددٍ يبدأ عنده ويمد عنده، ويقصر عنده، وينتهي عنده، وقد يُضطر أحدنا إمَّا إلى الضَّرب بقدمه أو النَّقر بإصبعيه، ليُحدِّد لنفسه هذه الوحدة الزَّمنيَّة؛ وإلا فسوف يدخل الأمر في النَّشاز، فالنُّشوز في الموسيقى هو الخروج عن الزَّمن الإيقاعي. ومن هنا تتضح لنا العلاقة بين الموسيقى والإيقاع، فالأولى مُلزمةٌ بالثَّانية، في حين أنَّ العكس ليس صحيحًا؛ ففي حين أنَّ الموسيقى لابدَّ أن تقوم على الإيقاع، وبالضَّرورة يتولَّد عنه إيقاعٌ، فإنَّ الإيقاع ليس بالضَّرورة أن يتولَّد عنه موسيقى، هذا بالإضافة إلى أنَّ اختلال الإيقاع قد يتولَّد عنه موسيقى، وهو ما أُسميِّه بالموسيقى الإيقاعيَّة.
الشِّعر الأدبي والشِّعر الغنائي:
في دراستي للشِّعر العربي، توصلتُ إلى أنَّ الشِّعر الغنائي لا علاقة له بالأدب، وبنيتُ وجهة نظري هذه على عدَّة مُرتكزات أساسيَّة، أعتقد أنَّها كفيلةٌ بتغيير مفهومنا حول تصنيفات الشِّعر والفنون الشعريَّة، وقدَّمتُ أولى مُلاحظاتي هذه في مقالٍ سابق بعنوان (سياحةٌ في حقل ألغام محجوب شريف) الذي تضمَّنه كتاب (هرطقات في النَّقد العربي المعاصر) الصَّادر عن دار أوراق للطباعة والنشر بالقاهرة بدايات عام 2015، غير أنَّ هذا التَّصنيف هو تصنيفٌ تمايزيٌ وليس تمييزي، فهو لا يسعى إلى تفضيل نوعٍ على آخر؛ بل –ببساطة- أُريد به فقط وضع كُلَّ شعرٍ في موقعه المناسب من الخارطة الفنيَّة الكبيرة؛ ففي الوقت الذي يقبع فيه الشِّعر الأدبي تحت تصنيف الأدب؛ الذي ينقسم بدوره إلى فنٍ شعريٍ، وفنٍ نثريٍ، يقبع الشِّعر الغنائي تحت تصنيف الموسيقى الذي يندرج تحته أيضًا: الغناء، والعزف، والتَّوزيع، والتَّلحين وغير ذلك، مما يخدم أغراض وأهداف الموسيقى، ويشتمل على خصائصها. وهو في ذلك كفن السِّيناريو الذي لا علاقة له بالأدب، بينما يقبع –بارتياحٍ- تحت تصنيف التَّمثيل، الذي يندرج تحته كُلٌّ من السينما والمسرح والدراما، وغير ذلك. ونُلاحظ هنا أنَّ السِّيناريو يخدم خط الَّتمثيل؛ فلا سينما أو دراما بلا سيناريو، وكذلك الشِّعر الغنائي، يخدم خط الموسيقى، فلا غناء بلا شعرٍ غنائي.
وعلى جانبٍ كبيرٍ من الأهميَّة أن نعرف أنَّ كِلا الشِّعرين يحتفظان بالإيقاع الشِّعري الضَّروري والمطلوب لتمييز الفن الِّشعري عن الفن النَّثري، وبالتَّأكيد يتبقى "شعر النَّثر"، ولكن هذا يُمكن مُناقشته في مكانٍ آخر. وفي اعتقادي الشَّخصي –أيضًا- أنَّ اشتراك الشِّعر الغنائي والأدبي في الإيقاع هو ما أحدث هذا الخلط الكبير في اعتبارهما شيئًا واحدًا، رغم أنَّهما ليسا كذلك على الإطلاق، وهذا التَّفريق ليس من باب العبث أو التَّرف الفكري، فهذا التَّفريق يُساعد كثيرًا في الإعداد الجيِّد والصَّحيح للأنطولوجيات الشِّعريَّة anthology على أساسٍ منهجيٍ مُتسمٍ بالإنصاف، وهنا أعني إنصاف الشُّعراء بإنزالهم منازلهم الحقيقيَّة، بعيدًا عن أيَّة اعتباراتٍ ذاتيَّةٍ تخصنا. ورغم اتفاق الشِّعرين: الغنائي والأدبي على الإيقاع، إلا أنَّهما يختلفان في الموسيقى؛ ففي حين أنَّ الشِّعر الأدبي يحتوي على إيقاعٍ فقط، فإنَّ الشِّعر الغنائي يحتوي على الإيقاع والموسيقى معًا، وموسيقى الشِّعر الغنائي هي موسيقى داخليَّةٌ، أي مُتعمدةٌ على التَّفعيلة الخاصة بها، فتفعيلات الشِّعر الغنائي إيقاعيَّة موسيقيَّة، بينما تفعيلات الشِّعر الأدبي إيقاعيَّةٌ فقط، وهذا يعني -ضمن ما يعني- أنَّ الشِّعر الغنائي هو شعرٌ غنائيٌ حتَّى وإن لم يُتغنَّى به، فالموسيقى موجودةٌ داخله، دون أن يحتاج منَّا أن نتحايل في موسقته، بينما الشِّعر الأدبي يظل شعرًا غير موسيقيٍ؛ حتَّى وإن تُغنِّي به، لأنَّ هذا الأمر عائدٌ تمامًا ليس إلى ميزة الإيقاع، وإنَّما إلى قدرات الملحن على التَّلحين، فالملحن المقتدر بإمكانه أن يُلحِّن النَّص النَّثري؛ ناهيكَ عن النُّصوص الشِّعريَّة الأدبيَّة ذات الإيقاع.
الموسيقى والإيقاع في الشعر:
مع اعتمادنا على كُلِّ ما ذُكر أعلاه حول أوجه التقاء واختلاف الموسيقى والإيقاع، يتوجَّب علينا أن نعرف أنَّ الشِّعر قائمٌ أصلًا على إيقاعٍ، وهو ما يُعرف في الفن الشِّعري بالوزن، وأوزان الشِّعر مُوزَّعة على بحور، وهي البحور السِّتة عشر المعروفة، على النَّحو التالي: بحر الطَّويل، وبحر المديد، وبحر البسيط، وبحر الوافر، وبحر الكامل، وبحر الهزج، وبحر الرَّجز، وبحر الرَّمل، وبحر السَّريع، وبحر المنسرح، وبحر الخفيف، وبحر المضارع، وبحر المقتضب، وبحر المجتث، وبحر المتقارب، وبحر الخبَب، وأخيرًا بحر المتدارَك. هذه البحور كُلُّها -دون استثناء- قائمةٌ على الإيقاع، أي الوزن، فما لا وزن له في الشِّعر ليس شعرًا، أو ليس شعرًا سليمًا. وموضوع أوزان الشِّعر موضوعٌ يطول الحديث عنه، وفيه الكثير من التَّعقيد، لأنَّه سوف يُدخلنا في مُناقشة التَّفعيلات وتفاصيلها الموغلة في التَّعقيد، كالحديث على الأنساق المتماثلة والمختلطة، وتفريعات الأنساق المختلفة إلى أنساقٍ مُتناغمة وتبادليَّة، ولكن ما يهمنا معرفته هنا، هو أنَّ أوزان الشِّعر تُعتبر الإيقاع الذي يقوم عليه الشِّعر. وقُلنا سابقًا إنَّ الإيقاع يُعادل الانتظام، وأنَّ الموسيقى تُعادل التَّغيير، أو الاختلال في الانتظام. أمَّا في الشِّعر فإنَّ الشِّعر الأدبي والشِّعر الغنائي فكلاهما قائمين على الإيقاع كضرورة شعريَّة، لأنَّ اختلال الإيقاع في أيِّ قصيدةٍ يُخرجها مُباشرةً من دائرة الشِّعر الموزون إلى الشِّعر غير الموزون فيُصبح نشازًا. ولكن ماذا عن موسيقى الشِّعر؟
على عكس ما قلنا سابقًا عن الأصوات فإنَّ الشِّعر منتظم التَّفاعيل يتولَّد عنه موسيقى، في حين أنَّ اختلال التَّفاعيل يُلغي هذه الموسيقى، مع الاحتفاظ بالإيقاع طبعًا، وهذه قاعدةٌ تجدر بنا وضعها نُصب أعيننا عند استعراضنا لأي نصٍ شعري، ويُمكننا صياغة هذا القانون على النَّحو التالي: الاختلال أدب، والانتظام موسيقى، على أنَّ الأدب هنا إشارةٌ إلى الشِّعر الأدبي، والموسيقى هنا إشارةٌ إلى الشِّعر الغنائي. وأهم عنصرٍ في هذا المقام يجب علينا الانتباه له هو التَّفعيلة، وهي ما يُناسب الكلمة في النَّص الشِّعري من وزنٍ مُشتقٍ من (فَعَل)، فكلمة (طويلٌ) مثلًا تأتي على وزن (فَعُوُلُنْ) في التَّفعيلة الشِّعريَّة. وحتَّى نفهم الأمر على نحوٍ سليمٍ؛ يتوجَّب علينا استعراض بعض تفعيلات البحور الشِّعريَّة، ولنأخذ بشكلٍ مبدئي –على سبيل التَّوضيح- ستة بحورٍ فقط، هي: الطَّويل، والبسيط، والمنسرح، والوافر، والكامل، والرجز، وسوف نُحاول استعراض التَّطبيقات الإيقاعيَّة والموسيقيَّة على هذه التَّفعيلات، بحيث تُصبح لدينا قاعدةٌ عامةُ يُمكننا تطبيقها على أيِّ بحرٍ شعريٍ آخرٍ؛ فالأمر في غاية السُّهولة:
بحر الطويل:
من الأبيات الشِّعريَّة المشهورة التي من بحر الطَّويل قصيدة أبي الطَّيب المتنبي التي يقول فيها:
على قدرِ أهلِ العزمِ تَأتـي العزائمُ
وتأتـــي على قدرِ الكِـــرامِ المكارمُ
وتَعظُمُ في عين الصَّغير صِغارها
وتصغرُ في عين العظيم العظائمُ
تفعيلة هذا البحر –كما هو واضحٌ أعلاه- على النَّحو التَّالي: (فَعُوُلُنْ مَفَاْعِيْلُنْ فَعُوُلُنْ مَفَاْعِلُنْ)، وهذه التَّفعيلة تتماثل على نفس النَّحو في شطري البيت الشِّعري: صدر البيت وعجزه. ولو نظرنا إلى وحدات التَّفعيلة الأربعة: "فَعُوُلُنْ"، "مَفَاْعِيْلُنْ"، "فَعُوُلُنْ"، "مَفَاْعِلُنْ" سنجدها مُتغيِّرة، أي أنَّها غير منتظمةٍ بتفعيلةٍ واحدةٍ، وعدم الانتظام في مقاطع أو حدات التَّفعيلة سببٌ مُباشرٌ في عدم حصولنا على موسيقى داخليَّة في هذه الأبيات، بناءً على القاعدة السَّابقة، ولهذا فيُمكنا القول بأنَّ بحر الطَّويل ليس من الشِّعر الغنائي، ليس لأنَّه لا يُمكن تلحينه والتَّغني به؛ بل لأنَّ الشِّعر الغنائي -كما عرفنا سابقًا- يحتوي على موسيقى داخله؛ إضافةً إلى الإيقاع الذي يتشاركه مع الشِّعر الأدبي.
بحر البسيط:
من الأبيات الشِّعريَّة المشهورة التي من بحر البسيط قصيدة علي بن الحسين زين العابدين التي يقول فيها:
ليسَ الغريبُ غريبَ الشَّامِ واليمَنِ
إنَّ الغريبَ غريبُ اللَّحدِ والكـفنِ
إنَّ الغريبَ لهُ حـقٌ لـغُـربـتــهِ
على المقيمينَ في الأوطانِ والسَّكنِ
تفعيلة هذا البحر –كما هو واضحٌ أعلاه- على النَّحو التَّالي: (مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعْلُنْ)، وهذه التَّفعيلة تتماثل على نفس النَّحو في شطري البيت الشِّعري: صدر البيت وعجزه. ولو نظرنا إلى وحدات التَّفعيلة الأربعة: "مُسْتَفْعِلُنْ"، "فَاْعِلُنْ"، "مُسْتَفْعِلُنْ"، "فَعْلُنْ" سنجدها مُتغيِّرة أيضًا، أي أنَّها غير منتظمة بتفعيلةٍ واحدةٍ، فالوحدات التَّفعيليَّة لم تتكرَّر بانتظام، وقد وقع خلل الانتظام في وحدة التَّفعيلة الأخيرة "فَعْلُنْ"، وعدم الانتظام في تقسيمات أو مقاطع التَّفعيلة سببٌ مُباشر في عدم حصولنا على موسيقى داخليَّة في هذه الأبيات، ولهذا فيُمكنا القول بأنَّ بحر البسيط ليس من الشِّعر الغنائي، فعدم انتظام الوحدات التَّفعيليَّة أسقط شرط الموسيقى الدَّاخليَّة، وبهذا يُصبح كالبحر السَّابق بحرًا للشِّعر الأدبي، وليس الغنائي.
بحر المنسرح:
من الأبيات الشِّعريَّة التي من بحر المنسرح ما يُنسب إلى عنترة بن شدَّاد التي يقول فيها:
بَردُ نسيم الحجاز في الـسَّحَـرِ
إذا أتَاني بريحه الـعَطـرِ
ألـذُ عندي مـمـَّا حوتهُ يدي
مـن اللآلي والـمالِ والـبدرِ
ومُلكُ كِسرى لا أشتهيه إذ
ما غابَ وجه الحبيبِ عن نظري
تفعيلة هذا البحر –كما هو واضحٌ أعلاه- على النَّحو التَّالي: (مُسْتَفْعِلُنْ مَفْعُوُلَاْتٌ مُفْتَعَلُنْ)، وهذه التَّفعيلة تتماثل على نفس النَّحو في شطري البيت الشِّعري: صدر البيت وعجزه. ولو نظرنا إلى وحدات التَّفعيلة الثلاث: "مُسْتَفْعِلُنْ"، "مَفْعُوُلَاْتٌ"، "مُفْتَعَلُنْ" سنجدها مُتغيِّرة ومُختلفةٌ تمامًا عن بعضها، فكُلُّ وحدةٍ تفعيليةٍ مُختلفةٌ عن الوحدة الأخرى، وهذا في حد ذاته –وإن كان يُحافظ على الإيقاعيَّة- إلا أنَّه ينفي الموسيقى تمامًا، وبحسب قاعدتنا فإنَّ اختلال الوحدة التَّفعيليَّة تُدرج النَّص الشِّعري في خانة الشِّعر الأدبي، وتُبعده تمامًا عن الشِّعر الغنائي.
بحر الوافر:
من الأبيات الشِّعريَّة المشهورة التي من بحر الوافر مُعلَّقة عمرو بن كلثوم التي يقول في مطلعها:
ألا هُبِّي بصحنكِ فاصبحينا
ولا تُبقي خُـمـور الأندرينا
مُشعشعةٌ كأنَّ الـحُصَّ فـيها
إذا ما الماء خالطها سخينا
تـجور بذي اللُّبانة عن هواه
إذا ما ذاقها حتى يليـنا
تفعيلة هذا البحر –كما هو واضحٌ أعلاه- على النَّحو التَّالي: (مُفَاْعَلَتُنْ مُفَاْعَلَتُنْ فَعُوُلُنْ)، وهذه التَّفعيلة تتماثل على نفس النَّحو في شطري البيت الشِّعري: صدر البيت وعجزه. ولو نظرنا إلى وحدات التَّفعيلة الثلاث: "مُفَاْعَلَتُنْ"، "مُفَاْعَلَتُنْ"، "فَعُوُلُنْ" سنجدها مُنتظمةً تمامًا، باتحاد الوحدتين الأوليتين "مُفَاْعَلَتُنْ"، واختلاف الوحدة الأخيرة "فَعُوُلُنْ"، وهو انتظامٌ إيقاعيٌ يتولَّد عنه موسيقى داخليَّة، تستشعرها مباشرةً بمجرَّد قراءة الأبيات التي على هذا الوزن، ولهذا السَّبب فإنَّ أي نصٍ شعريٍ من هذا البحر، فهو شعرٌ غنائيٌ دون أدنى شك، فقط عندما نتذكَّر قاعدتنا السَّابقة.
بحر الكامل:
من الأبيات الشِّعريَّة المشهورة التي من بحر الكامل قصيدة حافظ إبراهيم التي يقول في جزءٍ منها:
لا تحسـبنَّ العلم ينفع وحدهُ
مالـم يُتوج رَبُهُ بخلاقِ
من لي بتربية النساء فإنـها
في الشـرق علة ذلك الإخفاقِ
الأم مدرسة إذا أعـددتها
أعددتَ شـعـبًا طيب الأعراقِ
تفعيلة هذا البحر –كما هو واضحٌ أعلاه- على النَّحو التَّالي: (مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ مُتَفَاْعِلُنْ)، وهذه التَّفعيلة تتماثل على نفس النَّحو في شطري البيت الشِّعري: صدر البيت وعجزه. ولو نظرنا إلى وحدات التَّفعيلة الثلاث: "مُتَفَاْعِلُنْ"، "مُتَفَاْعِلُنْ"، "مُتَفَاْعِلُنْ" سنجدها ليست مُنتظمةً وحسب؛ بل ومُوحَّدةً أيضًا، فالوحدة التفعيلة مُتكررةٌ كما هي، دون أي إخلالٍ، وهو –بناءً على قاعدتنا السَّابقة- انتظامٌ إيقاعيٌ يتولَّد عنه موسيقى داخليَّة، وهذا يجعلنا نقول إنَّ أي نصٍ شعريٍ من بحر الكامل هو لاشك شعرٌ غنائي.
بحر الرجز:
من الأبيات الشِّعريَّة التي من بحر الرَّجز قصيدة عنترة بن شداد التي يقول في جزءٍ منها:
يا عَبلُ خلِّي عنكِ قــــول الـمُفتري
واصغي إلـى قــــول الـمحب المخبرِ
وخُذي كلامًا صُغته من عسجدٍ
ومعانـيــًا رصَّعتُها بـالـجــوهرِ
تفعيلة هذا البحر –كما هو واضحٌ أعلاه- على النَّحو التَّالي: (مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ)، وهذه التَّفعيلة تتماثل على نفس النَّحو في شطري البيت الشِّعري: صدر البيت وعجزه. ولو نظرنا إلى وحدات التَّفعيلة الثلاث: "مُسْتَفْعِلُنْ"، "مُسْتَفْعِلُنْ"، "مُسْتَفْعِلُنْ" سنجدها –أيضًا- منتظمةً ومُوحدةً، كما في تفعيلة بحر الكامل، وهو ما يجعلها من الشِّعر الغنائي كذلك، دون أدنى ريب، لأنَّ هذا الانتظام، يخلق موسيقى داخليَّة، على عكس الاختلال الذي ينفي الموسيقى، بينما يظل الإيقاع منتظمًا كضرورةٍ شعريَّة.
وهكذا نرى أنَّ الشِّعر إمَّا أن يحتوي على إيقاعٍ موسيقي (بمعنى أنَّ يتولَّد عنه موسيقى داخليَّة) فيكون بذلك شعرًا غنائيًا، وأمَّا أن يحتوي على إيقاعٍ غير موسيقي (يمعنى ألا يتولَّد عنه موسيقى داخليَّة) فيكون بذلك شعرًا أدبيًا، على أنَّه من الممكن طبعًا تلحين كلا الصِّنفين والتَّغني بهما لاحتوائهما على الإيقاع كشرطٍ للفن الشِّعري، ولكن إمكانيَّة التَّلحين والغناء ليست هي ما يُحدد تصنيف أيٍّ من النَّوعين، فمن الواضح –كما رأينا- أنَّ الشِّعر الغنائي مُحتوٍ على موسيقى داخلية تتولَّد نتيجةً لانتظام الإيقاع المتولِّد بدوره من انتظام الوحدات التَّفعيليَّة، بينما يكتفي الشِّعر الأدبي بالاحتفاظ بالإيقاعيَّة المتولِّدة من التَّفعيليَّة، ولكن عندم انتظام هذه الوحدات التَّفعيليَّة تُفقده الموسيقى الدَّاخليَّة. ومن المؤكد أنَّ هذه القاعدة قابلة للتطبيق على كل ضروب الشِّعر الحديثة أيضًا.
الآن، هل يُمكن تطبيق هذه القاعدة على الشِّعر النَّبطي أو العامي؟ الإجابة هي: نعم! فلا يُمكن للشِّعر أن يكون بدون وزن (إيقاع)، ووزن الشِّعر في تفعيلته، حتَّى وإن اختلفت الوحدات التفعيليَّة، وهذا ما يجعلنا قادرين على استشعار الإيقاعيَّة في الشِّعر دائمًا، ويجعلنا –أيضًا- قادرين على استشعار الموسيقى داخل بعضٍ منها. وإنَّنا إذا أحسنَّا التَّفريق بين الإيقاع والموسيقى، عرفنا كيف نُصنِّف النُّصوص الشِّعريَّة بناءً على تقسيمنا العام: أدبي وغنائي، وهكذا نكون قد فككنا لُغز الخلط المتداخل والغامض بين الإيقاع والموسيقى بشكلٍ عامٍ، وبين الإيقاع والموسيقى في الشِّعر على نحو خاص.... ومن هنا اخترت موضوع أطروحتي في الإيقاع ليصبح من أوائل الرسائل العلمية التي تعالج الإيقاع في القصيدة العربية الأندلسية عامة.... وشعر ابن زيدون خاصة.. وتثبت صحة أذن الخليل بن أحمد الفرهودي، وزيف إدعاءات كمال أبي ديب التي تبخرت من أول خطرة لعروض الخليل الباهر....
*شاعر القطرين*
*حلفايا الملوك*
-----------
*اختيارات*
*د.عبدالباسط سعيد الغرابي*